القَبَلِيُّونَ الجُدد

د. أحمد ولد المصطف

في البداية، من المهم التنبيه إلى الفرق الاصطلاحي بين القَبِيلَة والقَبَلِيَّة. فالأولى تعني بنية اجتماعية كانت (وما زالت في بعض الأحيان) تمنح للمنتمين لها هوية اجتماعية. أما الثانية، أي القَبَلِيَّة، فهي إيديولوجية توظف الانتماء القبلي لمآرب سياسية.

فالمقال الحالي يحاول بعجالة، يقتضيها المقام، رصد الظروف الاجتماعية التاريخية التي عادت فيها القَبَلِيَّة من جديد بعد أن كادت تختفي من الحياة السياسية العمومية في موريتانيا في نهاية سبعينات القرن الماضي.

فلا شك أن القبيلة هي ظاهرة اجتماعية ـ سياسية توجد في هذه الربوع منذ عصور ضاربة في القدم، وبالأخص في المكون العربي ـ الصنهاجي، مع وجود بنيات قبلية ـ أثنية في المكونات الأخرى من المجتمع (البولار، السوننكي، الوولف، إلخ). فقد تأسست المدن وبعض الكيانات السياسية (دول، إمارات، مشيخات قبلية) على أساس العصبيات القبلية. ولعل المهتم بالتاريخ الموريتاني الوسيط والحديث وحتى المعاصر وإلى غاية دخول الاستعمار الفرنسي للبلاد، يلاحظ أن الصراعات بين مختلف القبائل أو الكيانات المؤسسة على أساس تحالف مجموعات قبلية (الإمارات) كانت المحرك الأساسي لهذا التاريخ، في ديناميكيته الداخلية على الأقل.

ونتيجة عدم قدرة مجموعة معينة على السيطرة على كامل الفضاء الجغرافي الموريتاني الحالي، والذي عرف بعدة تسميات تاريخية من قبيل: بلاد الملثمين، بلاد التكرور، بلاد المغافرة، بلاد شنقيط، اتراب (أرض) البيظان، إلخ، وبسط سيطرتها عليه، انقسم هذا الفضاء إلى كيانات قبلية هنا وهناك، بعضها انتظم في إمارات، مع محافظته على البنية القبلية كوحدة سياسية وأمنية، فيما لم يستطع البعض الآخر الوصول إلى تلك الدرجة من التطور التنظيمي، ليستمر كمشيخات تدير شؤونها بنفسها حسب ميزان القوى بينها والمجموعات القبلية الأخرى. فأحيانا تتوسع مجموعة ما وتبسط نفوذها على مجموعات أخرى، وقد تدور عليها الدائرة فتصبح تابعة بعد أن كانت قائدة؛ والعكس أيضا صحيح، فقد تستجمع مجموعة ما كانت تابعة في السابق لقبيلة أو اتحاد قبلي معين قواها و”تتحرر” من نير من كانوا يخضعونها لإرادتهم، فتتبوأ مكانة سياسية واجتماعية جديدة إثر انتصارها على أعدائها أو من كانت تعتبرهم كذلك.

ورغم احتكاك سكان هذه البلاد المبكر والمباشر بالاستعمار الغربي، والذي دام أزيد من خمسة قرون، بدءا بالبرتغاليين وانتهاء بالفرنسيين، وما كابدوه جراء ذلك من حروب ومآس وما واجهوه به من مقاومة عسكرية وسياسية وثقافية، ورغم ما اكتسبوا من هذا الاستعمار من خبرات ومعارف مفيدة ومدنية حديثة، ظل المجتمع الموريتاني يحافظ على هذه البنية القبلية التقليدية، على عادة الكثير من المجتمعات الصحراوية عبر العالم.

قبل استقلال البلاد، أو لنقل تحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح البلد، على غرار مختلف مستعمرات فرنسا في الغرب الإفريقي، يتوفر على نخبة متعلمة تعليما حديثا وتطمح في المشاركة في تسيير شؤون البلد، جنبا إلى جنب مع الإدارة الاستعمارية. بدأ هذا المسار مع انتخاب أول ممثل عن مستعمرة موريتانيا في الجمعية الفرنسية سنة 1946، ثم تلا ذلك تشكيل الأحزاب السياسية وقانون الإطار سنة 1956، ثم مؤتمر ألاك في مايو 1958 والاستقلال الذاتي في نفس السنة، وأخيرا الاستقلال الفعلي سنة 1960.

بعد الاستقلال، ونتيجة تحديات جمة، داخلية وخارجية، تبنت حكومة الاستقلال سياسة ذات شقين: الأول سياسي، يهدف إلى دمج كافة التشكيلات الحزبية القائمة حينها في حزب واحد، هو حزب الشعب؛ الثاني اجتماعي، ويتمثل في تحجيم نفوذ سلطان القبائل والدعوات الإثنية. ومع أن القبيلة، بوصفها بنية اجتماعية، ظلت موجودة في ظل نظام الاستقلال، إلا أن نفوذها قد تقلص كثيرا.

بعد سقوط الحكم المدني الأول سنة 1978 وتولي العسكريين مقاليد الأمور، بدأت القَبَلِيَّة في العودة إلى الظهور، لتبلغ أوجها مع الانتخابات البلدية سنة 1986 والتعددية الحزبية مع مطلع تسعينات القرن الماضي. لقد أسست مرحلة الديمقراطية والتعددية الحزبية هذه لظهور طبقة سياسية تتخذ من القَبَلِيَّة وسيلة سياسية فعالة لتعبئة وحشد المناصرين على أساس الانتماء القبلي.

الأسباب التي مهدت لعودة القَبَلِيَّة

ترجع أسباب عودة القبلية إلى عدة عوامل، لعل من أهمها:

– تراجع المكانة الاجتماعية والاقتصادية لفئات عريضة من الأطر الذين كانوا يمثلون الطبقة المتوسطة: المعلمون، أساتذة التعليم الثانوي وحتى أساتذة التعليم العالي، الأطباء، الموظفون والوكلاء الإداريون، إلخ. وذلك بفعل تدهور قدرتهم الشرائية نتيجة الهبوط المستمر لقيمة العملة الوطنية (الأوقية) والتضخم، وبشكل خاص نتيجة الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي قبلت بها السلطات العمومية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي بإملاء من المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)؛

– ارتفاع أسعار السلع الأساسية؛

– تخلي الدولة التدريجي عن نظام الإقامة الداخلية Système d’internats الذي كان يوفر السكن والإطعام والمنح المدرسية لشرائح عديدة من تلاميذ الإعداديات والثانويات على عموم التراب الوطني؛

– توقف مجانية كافة العلاجات الطبية التي كان يوفرها النظام الصحي العمومي وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي؛

– تفشي الفساد والرشوة والمحسوبية على نطاق واسع في القطاعين العمومي والخصوصي؛

في هذا المناخ الاجتماعي السياسي الاقتصادي الهش، وجد المجتمع نفسه فجأة وقد فقد جزءا كبيرا من العون الذي كانت تقدمه له الدولة، وبالأخص ما كانت تقوم به من مراقبة للأسعار ومجانية بعض الخدمات، كالصحة والتعليم. كذلك، وبفعل تسارع وتيرة الفساد وسوء استغلال السلطة، أصبحت أمور، كانت اعتيادية في السابق وتتم بعدالة نسبية، في غاية الصعوبة. فعلى سبيل المثال، أصبح النجاح في المسابقات العمومية والتحويلات والترقيات والتعيينات تتم في كثير من الحالات خارج الأطر القانونية، وبدل أن تحكمها معايير الكفاءة والأهلية العلمية والأحقية، أصبحت تحكمها اعتبارات الولاء السياسي والانتماء القبلي والجهوي والزبونية، إلخ.

هكذا، وفي هذا الخضم، ظهرت طبقة اجتماعية جديدة، يمكن أن نطلق عليها اسم”الْقَبَلِيِّين الجدد”، تتشكل من تجار وموظفين استطاعوا جمع ثروات معتبرة، بعضها تم بطرق شرعية، كالتجارة في البلد أو خارجه أو عن طريق مزاولة أنشطة اقتصادية أو مهنية أخرى، بيد أن الكثير من هذه الثروات ـ للأسف ـ تم اكتسابه بطرق مشبوهة أو يجرمها القانون، كالتهريب وبيع السلع والأدوية منتهية الصلاحية، أو عن طريق الاتجار بالمخدرات أو بواسطة الرشوة ونهب الأموال العمومية أو تبييض الأموال، أو عن طريق الاستيلاء على أملاك الغير بالتواطؤ مع بعض أعوان الإدارة الفاسدين، كتشكيل شبكات لتزوير السندات العقارية أو وثائق الحالة المدنية، إلى غير ذلك من الممارسات المخالفة للقانون.

أرادت عناصر هذه الطبقة في مرحلة أولى أن “تستثمر” الأموال المتحصل عليها في مجتمعاتها المحلية لتجد مكانة اجتماعية ربما لم تكن لها من قبل، عبر طريق تقديم مساعدات مادية لبعض المحتاجين من بني جلدتهم والمساعدة في بناء بعض المرافق الخدمية لصالحهم، ثم استغلت ذلك سياسيا في مرحلة لاحقة ليصبح صوتها مسموعا وذو تأثير في الحياة العامة للبلد، سعيا لتعزيز نفوذها ولكي تحصل على “حصانة” تمكنها من الإفلات من العقاب، بالنسبة لمن يعرفون أنهم أصحاب سوابق ويؤرقهم ذلك.

لقد أطاحت هذه الطبقة، في الكثير من الحالات، بالزعامات القبلية التقليدية وحلت محلها، وأصبحت هي عنوان مجموعاتها لدى القبائل الأخرى أو لدى الأجهزة الإدارية المحلية وحتى لدى التشكيلات الحزبية من موالاة ومعارضة.

لكن قلة خبرة هذه الطبقة في التعامل مع “الملفات” التي وجدت نفسها مرغمة على تسييرها، كحل الخلافات البينية بين مكونات المجموعة الواحدة أو التعامل السياسي مع مجموعات قبلية أخرى مجاورة أو بعيدة، جعلها في الكثير من الأحيان تقع في أخطاء فادحة نتيجة حداثة عهدها بالأمور العامة لجماعاتها أو لجهلها بتعقيد وحساسية المواضيع التي تقحم نفسها فيها.

غير أن أخطر ما في الأمر هو سعي بعض عناصر هذه الطبقة، الذين لا يتوفرون على الحد الأدنى من الأهلية المطلوبة، لتولي مناصب سياسية عمومية بالغة الأهمية، كالمناصب الانتخابية أو الوظائف السامية في الدولة، بترشيح أنفسهم أو أشخاص في مستواهم لتولي رعاية مصالحهم.

وقد تصل الأمور إلى درجة تنذر بخروج الوضع عن السيطرة، وذلك عند ما ينجم عن هذا الترشح صراع داخلي قوي بين مكونات نفس المجموعة أو مع مجموعات قبلية أخرى منافسة.

لقد كانت الزعامات القبلية التقليدية، على علاتها، تتوفر في أحايين كثيرة، على قدر كبير من الحنكة والحصافة و”الدبلوماسية” لتسيير أكثر الملفات القبلية خطورة وحساسية، سواء الملفات الداخلية أو تلك التي ترتبط بنزاعات مع قبائل أخرى، وذلك نتيجة معرفتها المكتسبة عبر أجيال بالخلفيات التاريخية لتلك النزاعات وخطورة خروجها عن السيطرة، وما قد تسبب من مشاكل وحرج. أما القبليون الجدد فإنهم يجهلون الكثير من تلك الأمور وتفاصيلها، لذا فإنهم في أحايين كثيرة يعجزون عن فهم المشكل أصلا، أحرى أن يجدوا حلا ناجعا له.

في خانة القبليين الجدد، ينضوي أغلب من يوظفون الدعاية القَبَلِيَّة من “سياسيين” وموظفين سامين وتجار وفاعلين محليين.

فهل يعي هؤلاء فعلا أنهم يلعبون بالنار ويستهترون بالمصالح العليا للوطن؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق