موريتانيا بين القضاء والسياسة: هل يمثل حكم السجن على ولد عبد العزيز بداية عهد جديد أم تصفية حسابات؟

صدر الحكم القضائي الصادر بحق الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، الذي قضى بسجنه لمدة 15 سنة مع تغريمه بمبالغ مالية ضخمة، ليشكل منعطفاً حاسماً في المشهد السياسي والقضائي في موريتانيا. هذا القرار الذي جاء بعد محاكمة استمرت لسنوات، لا يقتصر على كونه مجرد فصل قانوني، بل يعكس صراعات أعمق بين قوى سياسية متنافسة في البلاد، ويطرح تساؤلات حول مستقبل النظام السياسي ومدى استقلالية القضاء في مواجهة كبار المسؤولين.
محمد ولد عبد العزيز، الذي حكم موريتانيا لعقد كامل (2009-2019)، كان شخصية محورية في السياسة الموريتانية، حيث تمكن خلال حكمه من بناء شبكة واسعة من النفوذ داخل الدولة. بعد انتهاء ولايته وتسليم السلطة للرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني، بدأت تظهر خلافات حادة بين الطرفين، خاصة مع محاولات ولد عبد العزيز للعودة إلى المشهد السياسي عبر حزبه وأذرعه المختلفة، ما أثار مخاوف من استعادة نفوذه.
في هذا السياق، جاءت التحقيقات القضائية لتطال الرئيس السابق بتهم فساد وإثراء غير مشروع، ضمن ما يعرف بـ”ملف العشرية”. هذه القضية، التي شغلت الرأي العام المحلي والإقليمي، تتعلق باتهامات بغسل أموال وتبديد أموال عامة، إضافة إلى استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب شخصية وعائلية.
الحكم الصادر بسجن ولد عبد العزيز 15 سنة، مع تغريمه ومصادرة أصول مالية، يمثل سابقة في تاريخ القضاء الموريتاني، إذ لم يسبق أن تمت محاكمة رئيس سابق بهذه الصرامة. من الناحية القانونية، يعكس هذا الحكم إرادة الدولة في محاربة الفساد، وهو ما يلقى ترحيباً من قبل مناصري الشفافية ومؤسسات المجتمع المدني.
لكن من زاوية أخرى، يرى البعض أن هذه المحاكمة تحمل أبعاداً سياسية واضحة، خاصة في ظل التوترات بين الرئيس السابق والحالي. فريق الدفاع عن ولد عبد العزيز وصف الحكم بأنه “سياسي” ويهدف إلى إقصائه من الساحة السياسية، مما يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول استقلالية القضاء وتأثير السياسة على مسارات العدالة.
هذا الحكم لا يقتصر على الجانب القضائي فقط، بل يشكل نقطة تحول في التوازنات السياسية داخل موريتانيا. إذ يعزز موقف الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي يسعى إلى ترسيخ حكم القانون ومحاربة الفساد، خصوصاً في ظل وعوده بإصلاحات شاملة.
في المقابل، قد يؤدي هذا الحكم إلى مزيد من الاستقطاب داخل المجتمع والسياسة، حيث لا تزال هناك قاعدة شعبية تدعم ولد عبد العزيز، ما قد يترجم إلى توترات اجتماعية أو سياسية في المستقبل القريب.
التحليل السياسي لهذا الحكم يشير إلى أن موريتانيا تمر بمرحلة انتقالية دقيقة، حيث تتشابك فيها الأبعاد القانونية والسياسية. القضاء، الذي كان في السابق أداة ضمن منظومة السلطة، يحاول اليوم أن يثبت استقلاليته، لكنه يواجه تحديات كبيرة في ظل ضغوط سياسية متبادلة.
كما أن الحكم يعكس رغبة السلطة في إرسال رسالة واضحة إلى النخبة السياسية بأن الفساد لن يُغتفر، وأن هناك محاسبة حتى على أعلى المستويات. هذه الرسالة، وإن كانت إيجابية من الناحية الإصلاحية، إلا أنها قد تخلق حالة من عدم الاستقرار إذا ما تم تفسيرها على أنها تصفية حسابات.
حكم السجن على الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز يمثل لحظة فارقة في تاريخ موريتانيا، تجمع بين محاولات الإصلاح القضائي والسياسي من جهة، وصراعات النفوذ السياسي من جهة أخرى. هذه القضية تبرز مدى تعقيد المشهد السياسي الموريتاني، حيث لا يمكن فصل القضاء عن السياسة، وتطرح تساؤلات حول كيفية تحقيق التوازن بين استقلالية المؤسسات وضرورة الاستقرار السياسي.
في النهاية، تبقى التحديات قائمة أمام موريتانيا في بناء دولة قانون حقيقية، تحترم حقوق الإنسان، وتكافح الفساد بفعالية، بعيداً عن التجاذبات السياسية التي قد تعرقل مسيرة التنمية والاستقرار.