“سلطة تنظيم الصفقات العمومية: كيف تُدار العقود بين الشفافية والتجاوزات؟” – موقع أخر قرار

تُعد سلطة تنظيم الصفقات العمومية في موريتانيا من الهيئات الرقابية الأساسية التي تهدف إلى ضمان الشفافية والنزاهة في منح العقود والمشتريات الحكومية. ومع منح بعض الصفقات بالتراضي وتصاعد حالات التعليق والإلغاء المتكرر، تصاعد الجدل حول دور السلطة ومدى التزامها بالقوانين المنظمة، وسط تباين في وجهات النظر بين الجهات الرسمية والمراقبين والخبراء.

آلية عمل السلطة ودورها القانوني

تعمل سلطة تنظيم الصفقات العمومية وفق القانون رقم 024-2021، الذي يمنحها صلاحية إبداء الرأي المسبق على جميع قرارات السلطة المتعاقدة المتعلقة بالإجراءات الاستثنائية، خاصة صفقات التراضي أو العقود التي لا تمر عبر مناقصة مفتوحة. وتلزم القوانين السلطة بالرقابة القبلية على هذه الصفقات، لضمان المنافسة ومنع الاحتكار أو الفساد.

الجدل حول صفقات التراضي وحالات التعليق المتكررة

شهدت السلطة مؤخراً حالة لافتة من الجدل حول صفقة نظافة العاصمة نواكشوط، حيث تراجعت لجنة تسوية النزاعات في سلطة تنظيم الصفقات العمومية ليل الأربعاء عن تعليق قرار منح الصفقة لشركة “أرما هولدينغ” المغربية، ليصبح القرار نهائياً بعد خمسة أشهر من التعليق والإلغاء المتكرر.

وقد منحت لجنة الصفقات بوزارة الداخلية وترقية اللامركزية والتنمية المحلية صفقة النظافة أربع مرات، بينما تم تعليقها أربع مرات وإلغاؤها ثلاث مرات من قبل سلطة تنظيم الصفقات العمومية، في مشهد يعكس حالة من التذبذب الإداري.

وكانت الصفقة قد منحت لشركة “أرما هولدينغ” يوم 27 مايو الماضي بمبلغ 7.06 مليار أوقية قديمة، بعد أن كانت لجنة الصفقات قد منحتها ثلاث مرات متتالية لشركة مغربية أخرى هي “SOS NDD”، بمبالغ تراوحت بين 6.9 و7.5 مليار أوقية قديمة، إلا أن سلطة تنظيم الصفقات العمومية كانت تلغي هذه المنح في كل مرة.

هذا التذبذب في منح الصفقة يسلط الضوء على التحديات التي تواجه السلطة في تحقيق الاستقرار والشفافية في منح العقود، ويطرح تساؤلات حول آليات اتخاذ القرار والتنسيق بين الجهات المعنية.

الجدل حول صفقات التراضي الكبرى: صفقة “هواوي” نموذجاً

أثارت صفقة ضخمة لإنشاء 49 محطة اتصال على الحدود الجنوبية لشركة “هواوي” الصينية بقيمة 18 مليون يورو جدلاً واسعاً، بعد منحها بالتراضي ودون إشعار سلطة تنظيم الصفقات العمومية، ودون فتح باب المنافسة أمام شركات أخرى. وقدرت تقارير إعلامية أن تكلفة المحطة الواحدة في هذه الصفقة تفوق الأسعار المتعارف عليها عالمياً، مما أثار الشكوك حول آليات التعاقد والرقابة.

وجهات نظر رسمية
  • سلطة تنظيم الاتصالات بررت منح الصفقة بالتراضي بأن شركة “هواوي” هي الأفضل فنياً، وأن المشروع ذو طابع استعجالي ولا يحتمل التأخير، خاصة في ظل الحاجة الأمنية لتغطية الشريط الحدودي. كما أشارت إلى أن أغلب شركات الاتصال في موريتانيا تعتمد بالفعل على معدات هواوي، وأن الصفقة شملت خدمات صيانة وضمانات طويلة الأمد.

  • وزارة التحول الرقمي أوضحت أن العقد يتضمن ضمانات وصيانة لعدة سنوات، وأن الدولة ستمتلك المعدات وتؤجرها لشركات الاتصال، ما يحقق عائدات مستقبلية ويضمن جودة الخدمة.

انتقادات ومخاوف المراقبين
  • خبراء اقتصاديون وإعلاميون رأوا أن تجاوز سلطة تنظيم الصفقات العمومية في مثل هذه العقود يفتح الباب أمام شبهات الفساد، ويضعف ثقة الرأي العام في شفافية إدارة المال العام. وأشاروا إلى أن غياب المنافسة قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل غير مبرر، كما حدث في صفقة “هواوي” حيث بلغت تكلفة المحطة الواحدة أضعاف سعرها في السوق الدولي.

  • قانونيون استندوا إلى المادة 11 من قانون الصفقات العمومية، التي تلزم بضرورة إبداء السلطة رأيها المسبق في كل صفقة تراضي تتجاوز سقفاً معيناً، معتبرين أن تجاوز هذه الإجراءات يمثل خرقاً للقانون.

  • مدونون وناشطون عبروا عن قلقهم من تكرار منح صفقات التراضي في قطاعات أخرى، مطالبين بمزيد من الشفافية ونشر تفاصيل العقود للرأي العام، وتفعيل دور السلطة الرقابي بشكل فعلي.

تقييم الأداء والآفاق المستقبلية

تُظهر التجربة الأخيرة لسلطة تنظيم الصفقات العمومية تحديات كبيرة في تطبيق القوانين والضوابط المتعلقة بمنح الصفقات، خاصة تلك التي تتم بالتراضي. فبينما تؤكد السلطة على دورها الرقابي في ضمان الشفافية، تكشف بعض الحالات عن تجاوزات تؤثر على مصداقيتها وتثير تساؤلات حول فعالية آليات الرقابة.

ويرى خبراء أن تعزيز استقلالية السلطة وتوفير الموارد اللازمة لها، بالإضافة إلى فرض عقوبات رادعة على المخالفين، سيكونان مفتاحين لتحسين الأداء وضمان احترام القوانين. كما يشددون على أهمية نشر تفاصيل الصفقات الكبرى بشكل دوري للرأي العام، مما يعزز من شفافية العملية ويحد من الشبهات.

في المقابل، تؤكد الجهات الحكومية على ضرورة التوازن بين سرعة تنفيذ المشاريع الحيوية والالتزام بالإجراءات القانونية، خاصة في المشاريع ذات الطابع الأمني أو الاستعجالي، مما يستدعي تطوير آليات مرنة تضمن الشفافية دون إعاقة الإنجاز.

بالتالي، تظل سلطة تنظيم الصفقات العمومية على مفترق طرق بين تعزيز دورها كحارس للمال العام وتحقيق متطلبات التنمية العاجلة، ما يتطلب مراجعة مستمرة لآليات عملها وتعاوناً أكبر بين جميع الأطراف المعنية لضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

خلفية سياقية

تأتي هذه الصفقات في سياق جهود حكومية لتعزيز البنية التحتية الرقمية والأمنية، خاصة بعد أحداث أمنية شهدتها المناطق الحدودية مع مالي، ما دفع لتسريع مشاريع الاتصالات. ومع ذلك، يظل الالتزام بالشفافية والمنافسة مطلباً أساسياً لضمان نزاهة الإنفاق العام.

يرى مؤيدو سلطة تنظيم الصفقات العمومية أنها صمام أمان لمنع الفساد وضمان الشفافية، بينما يعتبر منتقدو تجاوزها في صفقات التراضي أن ذلك يضعف ثقة المواطنين ويهدد مبدأ العدالة في منح العقود. ويجمع المراقبون على ضرورة مراجعة الإجراءات، وتفعيل الرقابة الفعلية، ونشر تفاصيل الصفقات الكبرى للرأي العام، حفاظاً على المال العام وتعزيزاً للثقة في المؤسسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق