بوح الظهيرة / خالد الفاظل

أجد نفسي هذه الأيام أجلس في منطقة محايدة من التعبير، اللغة لا تفي بالغرض، الرسم على الجدران بقطع الفحم والأقلام لم يعد يناسب عمري. يجب أن أكون واقعيا حتى تكون نصوصي مألوفة ومنطقية، يجب أن أكون محترما ومملا حتى اشتري المزيد من التقدير المزيف. الطرق ملتوية أمامي مهما تمددت في الأفق وبدت مستقيمة. الأضواء خافتة مهما تكاثرت المصابيح من حولي ولمعت. فقدت الشهية في ابتلاع الكلمات ومضغها كأنها علكة رماها طفل يتيم في زقاق شعبي بلا أرصفة بعد أن امتص السكر الموجود فيها وأخذ يبكي بحرقة..

أرغب أن أصلي في مكان مرتفع تكون فيه النجوم اللامعة أقرب إلى روحي، وأن اغتسل من ذنوبي التي تراكمت لبناتها بانتظام وأناقة  كالقصور المشيدة من المال الحرام. أرغب أن أكون مواطنا صالحا للغاية وأجد الشجاعة الكافية حتى أطفئ النور في عيني وزير الطاقة والمعادن والبترول، وأسكب سطلا من الماء البارد جدا على رأس وزيرة المياه وأحشو أنف وزير الصيد بعظام السمك، أرغب أن آكل البطيخ الأحمر في مجلس الوزراء وأجمعهم في مخلاة بلاستيكية عملاقة وأحملهم في مؤخرة شاحنة سائقها غاضب من زوجته وأنزلهم بإحدى المدن التي تعاني الظلام والعطش وتدهور الخدمات الصحية، وأترك الشمس تتغذى على بقايا التكييف الذائبة في مسامات جلودهم ليشعروا بالمواطنين وهم يحلمون بالسنابل والمطر في الظهيرة..

أرغب أن أصفع الفرص التي تهب دائما في الوقت غير المناسب. أرغب أن أثأر “للكمبارص” الذي يظهر في لقطات الأفلام وهو يضع يديه على رأسه ويصرخ بشدة بعد أن دفعه البطل من سيارته ليلاحق بها المجرمين، إنه يشبه المواطنين في فلم محاربة الفساد الذي تمثله الحكومات كلما أتيحت لها فرصة لعب دور البطولة. أرغب أن أرقص في مكان شعبي، كالدرويش أرغب أن أدور بلا توقف بين الباعة الفقراء تحت شمس الظهيرة حتى تصعد روحي السلالم المشيدة من الصبر والأمل. أرغب أن أطلق الألعاب النارية في المصالح الحكومية التي تكتظ بجوقة من الموظفين الذين لا يزاولون شيئا سوى التثاؤب وتربية الوقت. أرغب أن أحفر نفقا مظلما يربط بين سجن دار النعيم ووزارة االعدل، وأن أرى شكيرا رئيسة مصلحة في وزارة لتوجيه الإسلامي توزع النظرات الباردة على عمالها الورعين. أرغب أن أسجن وزير التعليم العالي للحظات في خيال المتنبي ثم أعطيه منحة إلى القطب الجنوبي وأقطعها عنه عندما يرى طيور البطريق. كل ما تقرأونه الآن مجرد محاولة لدفن الواقع في السخرية الجادة، إنه مجرد تمويه ليس إلا! فعندما  قررت أن أكتب بعيد الظهيرة لم تكن لدي نوايا مبيتة للحديث عن هموم المواطن وأنا صائم، لكن الكلمات انزلقت قدمها من حافة التعبير ووجدتني ألعب دور الكاتب من جديد. في مشهد يبدو لي مسجونا في صندوق من الزجاج المصفح، أرى تفاصيله المرَّة ولا أستطيع أن أخترقه أو أخدشه بأظافري. الحقيقة أنني كنت أرغب في الحديث عن موت الرغبة وتناقضات النفس البشرية وأشياء أخرى صغيرة مثل فيروس كورونا لا يمكن أن ترى بالعين بالمجردة. عن أخطاء صغيرة نمت بذورها حتى تحولت إلى غابة، أخطاء جعلتني أرى النجوم في الظهيرة، وأقول كلاما مشفرا محاطا بدائرة مهما ازداد قطر التعبير داخلها ستظل تفاصيل النقاط على محيطها لها نفس البعد من المركز. كلام لن يفهمه أحد، لأنه بلا بوصلة تساعده في الفصل بين وجهاته المتشعبة في أنحاء النفس، كأنه حجر قذف في بحيرة ساكنة..

 هنا صكوكو. الساعة 15:09 وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق